الحاكم وتفقد الرعية

بقلم: الدكتور زهير محمد جميل كتبي 
أديب وكاتب سعودي
عند ما نعود لقراءة القران الكريم قراءة عميقة وفاحصة ومتأملة وفي بعض سوره مثل سورة النمل نجد فيها ان العادل قد وضع اسس وشروط العلاقة بين الحاكم والمحكوم وكذلك واجبات ومستووليات الحاكم تجاه الرعية والاهتمام بشؤنها فقال الله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} (20) سورة النمل .
  هذا الخطاب الرباني العظيم هو أمر صريح ومعلن للحاكم أن يتفقد ..(([الرعية])).. ويسأل عن أحوالها ويعرف مشاكلها وهمومها ومنغصاتها. من هنا كبداية وضعت أساسات.. فقه السياسة.. لتعرف الرعية حقوقها وواجباتها . أي مالها وما عليها . بل أن الأمر الإلهي أكد أنه يشمل حتى الحيوانات. لأن الله ضرب لنا مثلاً في هذه السورة..[ بالهدهد ]..,لذلك ما يؤكد أن هذا التفقد من مهام وواجبات ومسئووليات الحاكم أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (( والله لو أن بغلة بالعراق تعثرت لسئلت عنها يوم القيامة )). هذا التفقد والسؤال هو جزء مهما من واجبات ومسئوليات الحاكم. لذلك قال ذلك الأعرابي لخليفة المسلمين سيدنا عمر: (( حكمت فعدلت فأمنت فنمت ياعمر!)) والعدل هو اهم شروط استقرار الحكم والوطن والمواطن وخاصة العدل الاجتماعي ، الذي جسدته الجولات الميدانية التفقدية التى قام بها سيدنا عمد بن الخطاب رضي الله عنه حين وجد ان امراة وابنائها جائعين . فامن لهم حاجتهم فحقق العدل الاجتماعي فامن على الامة فنام سيدنا عمر رضى الله عنه . بالقرب من شجرة ، وليس في قصور ضخمة وفخمة وبدون حراس او حاشية . 
  إن قراءتي لسورة النمل فيها الكثير من التأمل والعبر والدروس والتعمق الفكري وفيها الكثير من المواقف والمبادئ والقيم والاخلاق السياسية والثقافية والدينية. التي يجب ان نتعلمها ونفهمهما جيداً فهذه بعض الاستنتاجات التي توصلت إليها من قراءتي لهذه السورة العظيمة ومنها:
1/: أنه لابد للحاكم أن يتفقد الرعية. لتقوى العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فتسود العدالة في كل المناحي وتفقد الرعية له شروطه و موجباته لعل ارقها أهمية في تقديري أن لا يتقدم النفاق والرياء والكذب على الحاكم أثناء جولاته التفقدية. ولا يفرش له البساط الأحمر. بل أهمها هي ..[ السرية].. بحيث يكون التفقد دون حاشية أو حراس أو مطبلين وتكون مثل جولات سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه التفقدية والتي سمع من خلالها قصة المرأة التي ليس لديها طعام لأبنائها. يكون ويقوم تفقد الرعية علي ، تحقيق أسس المساواة والعدالة في مناطق الحكم. ودون هالة إعلامية وضجيج إجتماعي لا مبرر له . ان التجهيز والترتيب والتنظيم لعمليات تفقد الرعية ، يفقدها قيمتها واهميتها , وتصبح عملية من عمليات .. [ الصخب والظهور الاعلامي ] لتحقيق مكاسب سياسية . لا اداء لواجبات ومسئووليات الحاكم . لان التجهيز والاعلان عنها يعطي للمسئولين والموظفين المفسدين والفاسدين فرصة لاخفاء وتغيب .. ((المفاسد )) .. و .. (( الملاحظات )) .. و (( التجاوزات )) .. ، . وايضا يترتب على ذلك التجهيز والترتيب هدر الكثير من المال العام بسبب الانفاق المالي على تلك .. الزيارات التفقد يه .. ، . وهذا المال هو حق من حقوق الشعب ، يفترض ان ينفق على مشروعات وطنية تصب في مصلحة الوطن والمواطن .
 وعنصر المفأجاة اثناء الزيارات التفقدية اهم عامل من عوامل نجاحها وتحقيق اهدافها فعندما استخدم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. عنصر المفأجاة .. في جولاته التفقدية توصل الى حقائق ومعلومات كانت غائبه عنه كحاكم . فتلك الجولة العمرية الشهرية بينت له ان هناك من الرعية من نام وهو جائع ، وليس لديه طعام يأكله فعمل فوراً وبنفسه على تأمين الطعام لتلك العائلة من الرعية ، وهذا ما جعل حاكم اسلامي وهو سيدنا عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه يقول : (( اذا جاع الوالي شبعت الامة )) . والمؤسف اليوم ان .. (([ الولاة ])) .. او .. [ الحكام ] .. اليوم شبعوا ، و شبعوا ، حتى التخمة وجاعت الشعوب لدرجة الجفاف ، بل ان بنوك ومصارف سويسرا وغيرها من بنوك الغرب، اصبحت تصرخ من تكدس وتراكم وضخامة اموال الحكام والزعماء العرب المسلمين الذين وضعوا اموالهم هناك خوفاً عليها من شعوبهم ، لانهم يعرفون انها سرقة من أموال الشعب وقوتهم . ويا امان الخائفين ! .
2/: لابد أن يحاكم الحاكم المقصر من موظفيه والمسئولين عن ادارة شئون الرعية ، في حالة بروز وظهور التقصير وبأي شكل من الأشكال.
3/: أن غياب..[ الهدهد ].. عن الرعية وهو يمثل جهاز..(([البوليس السياسي])).. أوالمباحث العامة يدل على ضرورة محاسبة هذا الهدهد أو الجهاز الذي يتبعه. إذا قصرفي عمله. أو كذب أو زور أو أخفى حقائق عن الحاكم لذلك قال الحاكم الملك نبي الله سليمان ..{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}النمل21 .
  فقد تصل عقوبة الحاكم إلى القتل إذا خان الموظف أو المسئول وظيفته وكذب على الحاكم. لأن ذلك الكذب أو التزييف أو الإخفاء قد يضر بمصالح الامة والحاكم معاً.
4/: كما يمكن لي أن أعتبر ..[ الهدهد ].. يمثل نوع من أنواع المثقفين. وإن من مسئولياته وواجباته الوطنية أن يخبر الحاكم بما علم و عرف وما توفرت له من معلومات وأخبار عن الوطن ، وما قد يحدق به من أخطار . لأن الهدهد قال لسيدنا سليمان عليه السلام: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}النمل22. أي أن من حق المثقف أن يدل الحاكم على موقع فيه فساد أو ملاحظات أو تجاوزات وان على الحاكم ان يحلل ويعلل تلك المعلومات لما يحقق مصلحة الوطن . 
5/:تدل هذه القصة القرانية أنه يجب على الحاكم أن يجيد فن ..[الاستماع].. و ..[الإنصات ].. للرعية. والدليل ذلك الحوار الحضاري بين سيدنا سليمان والهدهد فلقد استمع عليه السلام بكل حواسه وجوارحه لذلك الهدهد ، وناقشة بنفسه ، ولم يتركه للحاشية من رجال الدين الذين حوله . فاليوم وللاسف ان بعض رجال الدين يستغلون الدين للاضرار ببعض الرعية ، وخاصة المثقفين منهم ، وعبر فرض أفكارهم ومبادئهم بقوة المناصب التى يتلقدونها .
6/: اختار المثقف الهدهد أن يقول ..[ لا ].. من أجل الحقيقة. واحتراماً وتقديراً لكرامة مبادئه وقيمه ومسئولياته كواحد من الرعية. فلم يخاف, من الحاكم, ولم يكذب, ولم يرجف, ولم يرتجف, ولم.. ولم.. ولم. قال الحقيقة كما شاهدها بأم عينه حين قال: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ }النمل024  
7/: إن الحاكم لم يستعجل في محاكمة المثقف الهدهد, بل انتظر محاكمته ووضع شروط لبراءته وهي أن تكون لديه أدلة فقال تعالى على لسان نبي الله سليمان : ..{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}النمل21. فجاء ذلك المثقف الهدهد بسلطان مبين ، وابرز أدلته وطرح رؤيته وأفكاره وبدون خوف او وجل او ارتباك وهو يقف أمام الحاكم بنفسه . لان محاكمة الحاكم لذلك المواطن بنيت وارتكزت على .. العدالة .. و .. الشفافية . وليس للعسكرين آية تحقيقات او تعذيب او عذابات ينزع عبرها اعترافات مزورة للمثقف الهدهد .
8/: إن اهتمام سيدنا سليمان عليه السلام بالبحث عن حقيقة ذلك المثقف الهدهد جعل مصيره ومحاكمته ..[ كمثقف ].. بيده, لا بيد رجال الدين أو المؤسسة الدينية. باعتباره جاء بمعلومات وأخبار وأفكار دينية. وهذا ما ذكرتني بمقولة رائعة لابن رشد تقول: 
(( الحاكم الطاغية في حزن دائم, وهو مقيم, مضطرب وتعيس, محاط بجماعة يملؤها الخوف والجوع.. تنهب ولا تشبع)).
أننا نريد حكام على شكل وا نموذج سيدنا سليمان عليه السلام ، وفي المقابل نريد .. مواطنين .. في مستوى الهدهد . وهل قرأ احد الحكام والقادة العرب هذه السورة القرآنية بمثل هذه القراءة ، وهذه الاستناجات . ليعرف الحاكم العربي المسلم واجبات تفقد الرعية . وما يترتب عليها من فوائد عظيمة لكل الظرفين .
 
 والله يسترنا فوق الأرض ، وتحت الأرض ، ويوم العرض ، وساعة العرض ، وأثناء العرض 

 للتواصل :5366611
FaranbaKKa@yahoo.co.uk  


ليست هناك تعليقات: