أديب وكاتب سعودي
لكي نفهم حقا التشكيلات الادارية الجديدة لأي حدث مجتمعي ، فيجب دائما العودة الى فهم ذلك التماثيل المترافق بين اوجه الاستقلالية عند مكان وزمان الحدث ، وأيضا فهم جيداً التبعية التي تشكل ذلك الحدث . مثل فعاليات موسم الحج وارتباطه الوثيق والراسخ مع مكة المكرمة وأهلها المباركين . فلا يجوز ربط أي قرار اداري يصدر بشأن الحج وطقوسه وممارساته الا بأهل مكة المكرمة ، فهم من يعلمون الكثير من الحجاج مناسكهم وطقوس وممارسات الحج ، فلذلك قال الامام ابو حنيفة ــ رحمه الله ــ (( تعلمت من حلاق بمكة المكرمة بعض مناسك الحج )) . وقال الامام الشافعي رحمه الله ــ (( دهماء مكة علماء )). فلا بد اولا فهم مصدر الدلالات التي ترتبط بالحج وأهل مكة المكرمة .
.. [ فالانتماء لمكة المكرمة ].. تميز لا يملكه كل سكان بلادنا ، فهو الرافد القوى لمعنى العيش المشترك مع كل سكان الارض قاطبة . وهذا ما أراد الله لمكة المكرمة . إن حال مكانة وأهمية الفرد المكي لا يتغير من الخارج فحسب ، وإنما من الداخل أيضا . فنحن أهل الله وجيرانه وخاصته . لأن أهل مكة المكرمة محكومون .. [ ببصمات ].. غير موجودة عند أحد ، وهي غير مكررة مثل .. [ بصمة العين ].. التي لا تتكرر . ويكمن البرهان الأفضل على ذلك في أن هذه ..[ البصمة ].. و..[ الخاصية ].. و.. [ التفرد ].. هي التي يؤكد حديث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ذلك . حين قال عن الصلاة بمكة المكرمة بمائة ألف صلاة وهذا الأجر العظيم ، وهذا المكسب الجليل والكبير ينتشر انتشاراً لم يسبق له مثيل على أساس ديني .
ان الحج خلق .. ( التجانس ).. بين مجتمعاتنا العربية والاسلامية . وهو الفترة المحدودة والتي كانت اشهر واصبحت اليوم .. [ ايام ].. والتي يكتمل فيها الانتقال من الغني والتكبر والغطرسة والمحسوبيات والجاه ، الى .. [ التساوي ].. الكامل والشامل في كل شيء ، فلا فرق بين عربي واعجمي إلا بالتقوى . هكذا هي ثقافة الحج في الفكر الديني .
هذا الدين العظيم والحضاري جعل الحج يمحي كل الفروق المنحوتة والأشد وطأة على جبروت وكبرياء وغطرسة النفس البشرية . فتنهى في الحج كل الفروق المادية وغيرها . تتلاشي .. [ التفرقه المالية والجنسية ].. وفيه ـــ الحج ـــ تتساوى كل إنماط العيش والتعايش ، وتتقارب النفوس ، وينتهى الاستهلاك المادي الفردي ، فتصبح بشكل متوازي بين الفقير والغني والراعي والرعية .
في الحج تزوال كل التشققات في لون البشر ، وتذوب كل الانشقاقات السياسية . إن مبادئ الحج وأخلاقه هي التي خلقت فكر الديمقراطية و التي تكون هدف التجمع الإنساني العام والكبير ، فيخلق الحج عبر مؤتمره العام حالة النقاش العام . التي لا مثيل لها .
أريد أن اؤكد أن الحج هو الذي فعل وخلق .. [ التوحيد الاخلاقي ].. للأمة الاسلامية . وقضى على فكره المجتمع المجزأ فكريا ومذهبياً وثقافياً . ودفع .. [ بالفكر الهادئ واللائق].. بالظهر، وقضى على كل أنواع مماثلة الفوارق ، وخلق كل عوائل الاندفاع في تحقيق مصلحة الجماعة . ومراجعة النفس ومحاسبتها ومتابعتها لخلق شخصية جديدة أي ولادة إنسان جديد كيوم ولدته أمه .
الحج تتكون فيه .. [ الضمائر النظيفة ].. و.. [ الصافية ].. و .. [ العالية ]..،. ولا ينفعل حين يعتدي عليه فيعود كل حاج الى وطنه وهو متسامح ، يميل للعفو ، وكتم الغيظ . ويلغى روح الانتقام وتصفية الخصوم . فيتحدث الإنسان بلهجة الإنسان المتسامح الذي لا يغضب . ولا ينفعل حين يعتدي عليه .
أن الحج هو الإيمان الذي يوجد خيار الموقف فيرتقى نص الحاج بكلمات الدعاء والكلم الطيب . أنها عقيدة التسامح والمحبة والتعاون . كل هذه الأخلاق والقيم هي التي تخلق .. [ ضخامه الموقف ].. الموحد يوم عرفة ، فيأتي التحول العلني للحاج فيذهب مسرعاً لرجم . ..[ إبليس ].. رمز الجريمة والخطأ والحقد والحسد .
عندها يرحل الانغلاق الديني ، ويلغي الجمود في فعل الخير والإحسان .
الحج هو الركن الإسلامي العظيم والجليل الذي يبعد ويلغي كلياً شبح الخوف من .. [ الانتماءات ].. المختلفة . لأنه الباحث عن هوية المسلم فقط . فلذلك ليس بمقدور الضرورات الخاصة بواقع السياسة أن تسمع صوتها في موسم الحج ، ولا عن طريق الحيلة أو التحاليل . لان الحاج جاء قاصد العبادة وممارسات كل الشعائر الدينية وعبادة الواحد الأحد . والتفريغ الكامل لشؤونه في الآخرة . لا تمكنه الرجوع لغايات لا يمكن ان تأتي الا من داخل ابليس عليه لعنة الله . فعلى الحاج أن يبقى خارج ذلك المحيط الشيطاني . والا .!.
ولا يمكن لاستدعاءات الشيطان تلك ان تشكل طريق للحاج غير التفرغ للعبادة ، وتفريغ النفس لها .
ان الحج وكل ممارساته المتعددة والمختلفة مذهبياً تشكل شكل جميلا ورائعا وحضاريا وإبداعيا من .. [ التدين الجماعي ].. وهو الذي صنع التفريق الكامل بين التسامح ، بوصفه مبدءأ دينياً ، وبين الغلو كمبدأ فكرياً ، فلذلك كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . يقول لكل من حج معه وطرح عليه سؤالاً وهو محرما يقول له : (( أفعل ولا حرج )). فكانت هذه العبارة الحضارية هي إيديولوجية الحج الصحيح والسليم والمعافي من التعقيدات المذهبية . أنها الفكر الديني الذي يصنع سلوكيات الحاج .
فالحج هو ركن في خدمة العقيدة ، والعقيدة الإسلامية هي التي خلقت ووضعت لنا كل أركان وأخلاق ومفاهيم ومبادئ وقيم الحج . فكان هذا الفكر الديني هو المصباح المنير الذي أضاء للأمة طريق الحج منذ خمسة عشر قرناً من الزمان .
والله يسترنا فوق الأرض ، وتحت الأرض ، ويوم العرض وساعة العرض ، وأثناء العرض .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق