♦الإصلاح والحاكم ♦

بقلم : الدكتور زهير محمد جميل كتبي

أديب وكاتب سعودي

الحاكم هو إنسان يخضع كغيره من البشر للخطأ والصواب . فهو ينسي ويغفل ويسهو ويكذب ، وينافق ، ويخدع ، ويخادع ويرتكب كل أنواع الجرائم البشرية . وهذه هي طبائع البشر . لذا فانه تقع المسؤولية الكاملة على بطانة الحاكم ، والمثقفين وأهل الرأي أن يعملوا على تذكير الحاكم إذا نسي أو غفل أو سهى أو أخطأ أو كذب .



أن كشف أخطاء الحاكم و تصحيح المعلومة للحاكم هو واجب .. [ ديني ووطني واجتماعي].. ولقد حفل تاريخنا العربي والإسلامي ، بالكثير والعديد من المواقف والمشاهد التي تم فيها تصويب وتصحيح المعلومة للحاكم العربي المسلم . بل ان من حق الحاكم أن يأخذ براي أهل المعرفة والخبرة والدراية ان التصحيح هو مرحلة متقدمة ومهمة من مراحل النقد والتقويم للحاكم ، ونقد الحاكم البناء يوجه إليه لتقويم القيادة في قراراتها وأعمالها وأقوالها ومواقفها . دون خوف من عقاب قد يترتب على النقد والتصحيح . فالنقد ملزم للمسلم القادر ويكون بمنهج العقيدة الإسلامية . فالخلاصة النهائية من النقد والتصحيح هي تذكير الحاكم إذا اخطأ أو نسي . ولنا في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة . فله صلى الله عليه وسلم الكثير من المواقف التي أخذ فيها برأى أهل الخبرة والدراية والتي نتج عنها تصحيح للقرار أي كان نوعه ومستواه مثل :



1/: موقفه في معركة بدر الكبرى حين دار حوار حضاري بين سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم وبين بعض أصحابه من الصحابة في أمر لم ينزل فيه وحي . وهو قول الحباب بن المنذر بن الجموح لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر (( أمنزل أنزلكه الله ام هو الحرب والمكيدة )) ، فقال الحباب يا رسول الله أن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فاقتنع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الرأي السديد وأعلن أمام المسلمين انه نزل على رأي الحباب وان في ذلك الحكمة والصواب . هذا هو الإسلام وهؤلاء هم القدوة الحسنة .



2/: والموقف الآخر هو قوله صلى الله عليه وسلم عن تلقيح النخيل ، وهو موقف نبوي عظيم حيث ان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان لا يدلي برأية عن شى لا يعرف عنه مادام لم ينزل فيه وحي ، فقد سئل النبي عن تلقيح النخيل قال : (( انما ظننت فلا تؤاخذوني بالظن ، ولكن اذا حدثتكم عن الله بشئ فخذوا به فأني لا أكذب على الله )). وقال لهم : (( أنتم أعلم بأمر ديناكم فما كان من أمر دينكم فإلي )).


■■■■


واذا انتقلنا الى فترة حكم الخلفاء الراشدين فنجد ان المواقف العظيمة كثيرة في هذا الجانب منها :
3/: قصة سيدنا عمر بن الخطاب في مسألة .. [ تحديد مهور النساء ].. حين اراد ان يحد من غلوائها . فتقف امرأة تراجع وتحاجج وتناقش وتحاور الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي العلن وامام الناس ، فتقول تلك المرأة العظيمة وامام سيدنا عمر وفي وجهه مباشرة : (( كيف تقولها ؟)). وقد قال الله تعالى : (( واتيم احداهن قنظاراً فلا تأخذوا منه شيئاً اتأخذونه بهتاناً واثما مبينا )). فيقف الخليفة عمر وبكل شجاعة واتزان ويقول امام الناس مقولته الشهيرة : (( اصابة امرأة وأخطأ عمر )).


4/: وهذا سيدنا عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه يقول لوزيره الاول رجاء بن حيوه ، وهو من البطانة الصالحة . يا رجاء ! (( اذا رأيتني قد ظلت الطريق وخرجت عنه فقل لي يا عمر !. اتق الله تعالى )).. فاين اليوم الحاكم العربي ، الذي يسمح لاحد من رعيته ان يقول له : اتق الله يا ملك او يا أمير او يا رئيس !؟.


■■■■


والحاكم العربي قد يعمل على استفزاز بعض الرعية فيجد اجوبة من الرعية اكثر استفزاز ومنطقية وجرأة وصراحة ، وعمقاً وحكمة وربما تصل لحد .. [ الجرأة ].. غير المحمودة طالما أن الحاكم قد تعدى على المحكوم . مثلما وقع بين امير المؤمنين سليمان بن عبدالملك ويزيد بن أبي مسلم . فسأله سليمان يزيد عن الحجاج بن يوسف الثقفي قائلا له :(( اهو قد استقر في قعر جهنم أم مازال ؟. يهوي ؟. فأجابه لا تقل ذلك يا أمير المؤمنين فإن الحجاج عادي عدوكم ووالي وليكم وبذل مهجته لكم ، فهو يوم القيامة عن يمين ابيك وعن يسار اخيك فاجعله حيث شئت )). هذه نوعاً من انواعاً المواجهة الصريحة والجرئية مع الحاكم في حالة عدم انضباطه وتمسكه باخلاق الحاكم ، فيجد من المحكوم ما لا يسره من الكلام. المهم ان المحكوم اضطر لتصحيح معلومات الحاكم . و يغضب الحاكم العربي من مثل هذه المواجهة ــ لكنها ضرورة ــ لان اذنه وسمعه قد الفت ان تسمع مثل ما قاله لهم الشاعر المغربي الشهير ابن هاني الأزدي الاندلسي حين مدح الخليفة المعز لدين الله قائلاً له :


ما شئت ، لا ما شاءت الأقدار فاحكم ، فانت الواحد القهار


هذا النوع من الحكام العرب لا يحب الا هذا النوع من الرجال الذين يجيدون الوقوف على .. [ منصة ].. عبدالله بن أبي بن ابي سلول شيخ المنافقين في المدينة والكون كله . وربما يكون ابن هاني الأندلسي احد أحفاد ابن أبي سلول .


■■■■


وهذا أنموذج راقي آخر يدل على عدم مجاملة او محاباة الحاكم وان كان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يدل عل عدم خوف الرعية المخلصة من الحاكم وان اخطأ . فقد روي ان عمر بن الخطاب ـــ رضي الله عنه ـــ في ايام خلافته رأى رجلا وامرأة على فاحشة ، فجمع الناس وقال : ما قولكم اذا راى امير المؤمنين رجلا وامراة على فاحشة ؟. فقام علي بن ابي طالب ـــ رضي الله عنه ــ واجابه بقوله : ( يأتي امير المؤمنين بأربعة شهداء ، او يجلد حد القذف ويصبح ساقط الشهادة اذا صرح باسمي من رآهما شأنه في ذلك شأن سائر المسلمين ) . فسكت عمر ، ولم يعين أحداً ممن رأى . يا سلام .. انظروا الى المواجهة العلنية ، والمرتبطة بقول المحكوم سيدنا علي بن أبي طالب للخليفة سيدنا عمر رضي الله عنه عنهما أننا سوف نعاقبك ونقيم عليك الحد كغيرك من المسلمين . وانه سوف يسقط عنه الشهادة وهو خليفة المسلمين .


■■■■


والمؤسف اليوم ان من يجلس مع وبجوار الحكام هم من فئة النفعيين والمنتفعين والمنافقين والمرائين وأصحاب المصالح والمطامح والغايات الضيقة . وتغفل بطانة الحكام اليوم ان المال لا يصنع الإنسان والمال لا يدوم ، وألا فأين مال قارون أغني أغنياء الأرض. وهل نفعه ما له ووجاهته وجاهه !. وان المال لا يعطى الطمأنينة . وتغفل البطانة الفاسدة حول الحكام ان المنصب لا يصنع الإنسان ، ولا يعطيه الكرامة او العزة .


■■■■


أن على الحاكم العربي ان يحترم النقد الملئ بالرآي الصائب حتى لو تعارض مع رأيه . وعلى الحاكم ان لا يركب متن واساليب الغرور والعنجهية والكبر والتكبر اذا اصاب الراى والنقد ايدهما ، واذا أخطأ الاجتهاد صوبه . ان معاقبة الكتاب والمثقفين وأهل الرأي هي .. [ جريمة ].. لا تغتفر في تاريخ الحاكم .

ان حكام اليوم يجيدون اختيار البطانة الفاسدة والملوثة ، انهم يريدون الذين يجيدون من يكتب عنهم بمديح وثناء ونفاق ، ولكنهم لا يستطيعون ايجاد من يسبح الله عنهم .

والله يسترنا فوق الأرض ، وتحت الأرض ، ويوم العرض وساعة العرض ، وأثناء العرض .


للتواصل :5366611
Faranbakka@yahoo.co.uk


ليست هناك تعليقات: