أديب وكاتب سعودي
أفضل من عبر عن العلاقة بين الحاكم والمثقف ومراحل التأزم المختلفة بينهما. هو المثقف العربي الكبير عبدالله بن أبي المقفع حين قال : (( إنك لا تأمن انفة السلطان ، أن أنت أعملته ، ولا تأمن غضبه أن أنت كتمته ، ولا تأمن عقابه إن أنت صدقته )).
وعند قراءة مستوى العلاقة بينهما من قريب نجد أنها على مر العصور المختلفة كانت بين مد وجزر ، ولم يتفق المثقف العربي والحاكم على أقرار منهج وبرنامج الإصلاح الوطني . فلم يذكر تاريخنا العربي أي نوع من الاستقرار والقبول بينهما . ويندر أن تجد صاحب فكر وقلم لا يختلف مع صاحب السيف والكرسي . فالعلاقة بينهما كعلاقة قلم ابن حزم وسيف الحجاج . وقد شاءت الاقدار أن اعيش مثل هذه الحالة . أن المثقف الذي يقف ضد فساد الحاكم هو حر الفكر والمعتد بموهبته الفكرية والثقافية والمبدئية . والذي لا يتزلف والذي لا ينافق للحاكم ، ولا يتبع نزوات الحاكم ، ولا يهادن او يحاب . هو المثقف المستقل والجاد والمنظم والمسؤول عن مواقفه والملتزم بما عليه من واجبات وطنية ، ويعرف معنى الاحترام الوطني . هو الذي يرفض الوقوف في طابور السلطان ليمدحه بكل المدائح المختلفة . هو ذلك الإنسان المترفع عن صغائر الامور ويرفض الاستثناء في كل شئ . ولا يستهويه اللهاث خلف تدافع المصالح والمنافع . المثقف الذي يؤمن بمقولة ( برونسكي ) التي تقول: (( هل مات مجتمع يوماً بسبب الخلاف ؟. مجتمعات كثيرة ميتة للإجماع المفروض )).
تتأثر الأمة عادة وفق درجات التأثير السياسي المرافق لمشروع.. [ الإصلاح الوطني ].. الذي يقوده الحاكم والمثقف معا . وذلك التأثر يكون تبعا لحالات ..(( الوعي )).. ومستواه في دماغ أفراد الأمة . والمفاضلة السياسية في ..(( الوعي السياسي )).. يعود لصلاح وتقوي ذلك الحاكم . فإذا تجاوب أفراد الأمة مع الحاكم في برنامجه الإصلاحي . فان ذلك يعود بالنفع المباشر على الأمة وأفرادها ويكون مستوى رقيها سريعا ، وسعادتها مكفولة .
واذا فسد المثقف ، فان القيم تفسد فيه ، فيتلاقي مع الحاكم في ذلك ، وقد يتصاعد التلاقي بينهما الى درجة التحالف المتين ، وهذا يؤدي بالضرورة الى تقاسم الاثنان الغنم والغرم ، ويعشقان معا الدرهم والدينار . وما أكثر الحالات الحاضرة التي تجسد وتبين اوضاع بعض المثقفين المعارضين الذين يتغيرون فوراً ولمجرد ان يتم تعينهم في مناصب عامة وحساسة ، مثل الوزارة ، أو احد المناصب العامة . فيلبسون ثياب الحاكم وبكل مقاساتها . ويصعدون مختلف منصات الاعلام للدفاع عنه وتبرير مواقفه وقراراته .
أنه الخوف من بطش الحاكم !.
الحاكم الذي يعتقد انه الوحيد الفاهم في السياسة ، وانه القادر الوحيد على اتخاذ القرار الافضل . وانه الوحيد الذي يصنع القرار القوى والجرئ والعنيف . وانه يحتكر السلطة ، ويدعي الحكمة في كل شئ . من هنا يفسد كل شئ وتظهر كل اشكال ..(([ الاستبداد ])).. فيحرم ذلك الحاكم كل شئ ، ويحلل الحاكم المستبد كل انواع ..(([ الاستبداد ])).. ،. هذا .. [ المستبد ].. من الحكام يفسر لنا أسباب الصراع العربي التاريخي ، بين سلطة ..[ المستبد ]..
و.. [ ضعف المثقف ].. وخوفه من البطش والاهانة . والضرب والاعتقال والسحل والتعدي النفسي والتعدي على الأعراض وتغليظ العقوبات المتشددة وتلفيق التهم وغيرها . ولعل اخطر حالات خوف المثقف من سلطة المستبد هو .. ( اقصائه ) عن ممارسة السياسة بحرية فيحرم عليه العمل السياسي ، ويجرمه في حالة اشتغاله بها . ويحاول .. المثقف .. رغم خوفه الشديد من بطش المستبد ، فيعمل على مقاومة السلطة، فيقاوم الاستبداد والفساد معاً .
والخوف يسيطر على المثقف عندما يعاقب ، وتعاقب نصوصه واحاديثه وتفسيراته . ويقف وراء تفسير نصوصه ترسانة من السلطويين وحاشية وفقهاء الحاكم . وتظهر كل حالات تجيش المفسرين السلطويين ، والمبررين لسلوكيات .. [ البطش ].. ، وايضا يستقطب فحول المشتاقين والمتطلعين لفعل .. [ الشر].. بالمثقف . فتعرقل الحقيقة بسبب تلك التفاسير السلطوية المعوجة والمشحونة بالتجاوز والتجريح الشخصي للمثقف والإساءة غير المبررة لمكانة وهيبة المثقف .
أنها .. [ عبادة الاستبداد ].. و.. [ تقديس الحاكم ]..،. تفعل حاشية وعلماء وفقهاء الحاكم كل ذلك لتنافق وتعبد وتتقرب اكثر فأكثر على حساب كرامة المثقف . ان تلك الحاشية السيئة تقهر من ينتقد الحاكم ، وربما تقتل من يخالف الحاكم ، فتقيم حوله اسوار متينة ، لا يسمح بسببها لأحد باختراقها او مجرد التفكير في الاقتراب منها .
وتذكر لنا حركة تاريخنا العربي الكثير من قصص إرهاب ورعب وتخويف وتجويع الحاكم للمثقف ومن تلك القصص ما وقع بين الخليفة العربي المستبد هارون الرشيد ، والإمام الشافعي ــ رحمه الله ــ.
غضب أمير المؤمنين هارون الرشيد على الإمام الشافعي رحمه الله غضباً شديداً ، فطلبه ليعاقبه فلما حضر الإمام قام إليه هارون وأجلسه موضعه وقعد بين يديه ، يعتذر للشافعي وحينما خرج الإمام الشافعي سأله الفضل صاحب أمير المؤمنين عما كان يقرأه حينما دخل على هارون الرشيد . فقال الشافعي : يا فضل خذ مني وأحفظ عني . قلت [شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {آل عمران:18} . اللهم إني أعوذ بنور قدسك . وبركة طهارتك ، وبعظمة جلالك ، من كل عاهة وآفة وطارق الجن والإنس ، إلا طارقا يطرفني بخير . يا أرحم الراحمين اللهم بك ملاذي فيك ألوذ ، وبك غيابي فيك أغوث ، يا من ذلت له رقاب الفراعنة ، وخضعت له مقاليد الجبابرة . اللهم ذكرك شعاري ودثاري ، ونومي ، وقراري ، اشهد أن إله إلا أنت ، اضرب علي سرادقات حفظك ، وقني رعبي بخير منك يا رحمن ).
وكذلك قصة الإمام المثقف الاوزاعي ـــ رحمه الله ـــ ، إمام أهل الشام ، حيث يذكر أن والى الشام غضب عليه غضبا شديد لموقف بينهما . رفض فيه ومن خلا له الإمام الاوزاعي أن يلبي ويحقق رغبات الوالي . فطلب إحضاره وعلم من حول والي الشام ان الوالي كان ينوي قتل الإمام . فلذلك تعامل عسكر الوالي بغلاظة وشدة مع الإمام الاوزاعي حين ذهبوا إليه في منزله ، واقتادوه وهو مقيد ومكبل بالحديد والسلاسل . وادخل الإمام الاوزاعي على الوالي. وكان الوالي جالساً فعندما دخل الإمام عليه قام وفز واستقبل الاوزاعي وأجلسه موضعه المناسب وتحدث إليه بكل احترام وأدب . ثم خرج الإمام الاوزاعي فسأله احد تلامذته قائلاً له : ماذا حصل يا إمام . فقال الاوزاعي قلناها عند دخولنا وعند خروجنا ، فقال وما هي قال الاوزاعي : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ). وقيل انه قالها أربعمائة وخمسون مرة في الدخول والخروج .
عندما يفعل الحاكم فعل .. [ الخوف والتخويف ].. بالمثقف ، انما يريد ان يكون المثقف احد افراد حاشيته وبطانته ، ويكون احد حملة .. [ المباخر ].. التي يتبخر بها الحاكم ، وان لا يسمع منه إلا التبرير والتأيد لقراراته وأفكاره وكلامه . لان الحاكم لا يحب الا سماع أصوات المنافقين والمرائين والطبالين والانتهازيين . ويكون من ضمن .. [ طبقة الدراويش ].. الحاملين للدفوف .
فالهدف من ..(([ الخوف ])).. الممارس على المثقف ، ان يعيد المثقف النظر في مواقفه وأرائه وقيمه ومبادئه . فبعد عمليات الخوف والتخويف على المثقف ان يختار ويحدد موقفه من الحاكم ، فأما ان يكون .. [ مثقف سلطوياً ].. وأما .. [ مثقف حر ].. فمن يغلب من !.
هل تغلب المصالح والغايات والأموال والجاه والمحسوبيات !. أما تغلب المبادئ والقيم والمثل والأخلاق بفعل الأفكار والرؤى الصافية والإرادات الحرة .
والله يسترنا فوق الأرض ، وتحت الأرض ، ويوم العرض وساعة العرض ، وأثناء العرض .
للتواصل :5366611
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق