هذه الآية الكريمة لم يفكر فيها وفي تفسيرها الكثير من القادة والحكام والأمراء والمسؤولين والقضاة الذين تقلدوا مهام ومسؤولية بعض المسؤوليات بمكة المكرمة . وخطورة إلحاق الأذى بأهل مكة المكرمة . فاذا ألحد أحد أي إلحاد فإنه متوعد بهذا الوعيد . وقد أكد النبي r هذا التحريم للإلحاد في حرم الله تعالى ، وبين أن فاعله من أبغض الناس عند الله تعالى . فعن أبن عباس ــ رضي الله عنهما ــ قال : قال النبي r : (( أبغض الناس إلى الله ثلاثة ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية،ومطلب دم أمرئ بغير حق ليهريق دمه))
وقد عد الصحابي الجليل ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ الإلحاد في الحرم من كبائر الذنوب والآثام ، فروى الإمام الطبري في تفسيره عن طيسلة بن علي قال : ( اتيت ابن عمر عشية عرفة وهو تحت ظل اراك فسألته عن الكبائر فقال : هن : الاشراك بالله ، وقذف المحصنة ، وقتل النفس المؤمنة ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين المسلمين ، والإلحاد في البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً ).
وقد جاء في تفسير ابن كثير ( 3/215 ) : قال ابن مسعود ــ رضي الله عنه ـ لو أن رجلا هم فيه بإلحاد وهو بعدن ابين لأذاقه الله ــ عز وجل ــ عذاباً أليما . قال ابن كثير : قال بعض أهل العلم : ( من هم أن يعمل سيئة في مكة اذاقه الله العذاب الأليم بسبب همه بذلك وإن لم يفعلها ، بخلاف غير الحرم المكي من البقاع فلا يعاقب فيه بالهم ).
وجاء في تفسير القرطبي ( 2/177 ) ( إن مكة لم تزل حرماً آمناً من الجبابرة المسلطين ، ومن الزلازل وسائر المثلات التي تحل بالبلاد ، وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار به أهلها متميزين بالأمن من غيرهم من أهل القرى ).
ولذا ينبغي على ساكن الحرم وقاصده من الوافدين أن لا يهتكوا حرمة الحرم بإيذاء الناس فيه ، ونشر الذعر بينهم ، فإن ذلك من أعظم الآثام .
ويجمع العلماء والفقهاء والمؤرخون على أنه ما على وجه الأرض بلدة يستجاب فيها الدعاء في خمسة عشرة موضعا إلا مكة المكرمة :
أولها : جوف الكعبة الدعاء فيه مستجاب ، والدعاء عند الحجر الأسود مستجاب ، والدعاء عند الركن اليماني مستجاب ، والدعاء عند الحجر مستجاب ، والدعاء خلف المقام مستجاب ، والدعاء في الملتزم مستجاب ، والدعاء عند بئر زمزم مستجاب ، والدعاء على الصفا والمروة مستجاب ، والدعاء بين الصفا والمروة مستجاب ، والدعاء بجمع مستجاب ، والدعاء بعرفات مستجاب ، والدعاء في المشعر الحرام مستجاب . وهذه من خصائص ومزايا تفردت بها مكة المشرقة .
يقول العلامة قطب الدين بن علاء الدين النهروالي المكي الحنفي في خاتمة كتابه ( الإعلام بأعلام بيت الله الحرام في تاريخ مكة المشرفة ) وتحت عنوان : ( ذكر المواضع المباركة ، والأماكن المأثورة بمكة المشرفة ) : فمنها المواضع التي نص العلماء رحمهم الله تعالى ، أن الدعاء فيها مستجاب ، وذكر الحسن البصري ــ رضي الله عنه ــ خمسة عشر موضعا يستجاب الدعاء فيها ، عددها ، وزاد غيره مواضع أخرى فبلغت ثلاثة وخمسين موضعاً ، وذكر منها مواضع غير معروفة الآن ..).
وجاء في كتاب جامع العلوم والحكم ص ( 332 ) : (( انه روي عن عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ قال : لأن أخطىء سبعين خطيئة يعني بغير مكة أحب إلى من أن أخطىء خطيئة واحدة بمكة ).
حيث عرف وعبر التاريخ وكل إحداثه الهادئة والمجنونة منها بالذات أن أهل مكة المكرمة اذا أصابهم ..[ ظلم ].. أو..[ ضيم ].. أو .. [ جور ].. أو .. [ مكروه ].. فإنهم يلتجئون إلى الصالحين والعابدين والعلماء والفقهاء منهم لطلب الدعاء لرفع الكرب والظلم والجور .
وأهل مكة المكرمة من عاداتهم وتقاليدهم أنهم يتعلقون بالصالحين والعلماء ، ويعتقدون فيهم الخير ، وهذه العادة متاصلة في أخلاقهم وسلوكياتهم .
ومن أخلاق المكيين أنهم عادة ما يميلون إلى الخير والسلام ، فعرفوا بذلك حتى في كثير من الكتابات والكتب والمصادر تصفهم .. [ بالحمام ].. و.. الحمام .. هو رمز السلام وهناك مثل شعبي مكي يردده المرددون وكتبه ويكتبه المؤرخون وهو موروث حجازي تقول كلماته : (( أهل مكة حمام وأهل المدينة قماري .... )).
فلقد ذكر لنا التاريخ العربي والإسلامي ومنذ العصر الجاهلي الكثير من القصص والروايات والحكايا والعبر التي وردت في هذا المجال،ولعل من المفيدأن اذكر هنا نماذج منها:
1/: قصة أبرهة الحبشي والذي قدم من اليمن وهو القائد الذي ارعب جيوش قبائل الجزيرة العربية وجاء لهدم الكعبة المعظمة بمكة المكرمة وهو في طريقه اسر ابل شيخ وكبير قبيلة قريش عبدالمطلب ، فذهب إليه عبدالمطلب وطلب من أبرهة أبله وردها عليه وقال له مقولة الشهيرة ( أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه ). واتجه فوراً إلى المسجد الحرام ، وتعلق بإسداله وقال قصيدته المشهورة المشتملة بالدعاء على أبرهة بالدعاء الشهير الذي ذكر في كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير وغيره من كتبنا التاريخية والذي قال فيه :
يار ب لا أرجو لهم سواكـا
يا رب فامنع منهم حماكاً
إن عدو البيت من عاداكاً
إمنعم أن يخربوا قراكــــــاً
لا هم إن العبد يمــــــــــــــــنع رحله فامنع حلالـــــــــــــــــك
لا يغلبن صليبهـــــــــــــــــــم ومحالهم غدراً محالــــــــــــــك
ولئـــــــــــــــن فعلـــــــــــــــــت أمــــر تتــــم بــــه فعالــــــــــك
أنت الذي إن جاء بــــــــــــــاغ نرتجيك له كذلـــــــــــــك
ولوا ولم يحووا ســـــــــــــــوى خزي وتهلكهم هنالــــــــك
لم استمع يومـــــــاً بــــــــــــــأر ْ جس منهم يبغوا قتالــــــــك
جروا جموع بلادهـــــــــــــــــم والفيل كي يسبوا عيـــــــــالك
عـــمدوا حماك بكيدهــــــــــم جهلا وما رقبوا جلالـــــــــــــك
فاستجاب الله لدعاء عبدالملطب كبير مكة المكرمة ، وبقيت حرمتها ومكانتها كما كانت وعادة حرمتها ومكانتها كما كانت . فعن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ أن رسول الله r قال : (( إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنها لن تحل لأحد كان قبلي ، وإنها أحلت لي ساعة من نهار ، وإنها لن تحل لأحد بعدي )) فمكة حرم الله إلى يوم القيامة .
2/: قصة الحجاج بن يوسف الثقفي قائد جيش الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان ، عندما جاء غازيا لقتل عبدالله بن الزبير رضي الله عنه وخلعه من أمارة مكة المكرمة، وحاصر مكة المكرمة وجوع أهلها وأصيبوا بالعطش والهلع والفزع والخوف ،وحرق الكعبة المعظمة وضربها بالمنجنيق كل ذلك امتحان وبلاء من الرحمن الرحيم ليعلم المكيين .. [ الصبر ].. و.. [ الاحتمال ].. و.. [ تحمل ].. ما لا يطيقون . فذهبت إليه السيدة السياسية المكية الجليلة والعظيمة والشجاعة أسماء بنت أبو بكر الصديق رضي الله عنهما ، وهو مرابط في أعالي مكة المكرمة ودخلت عليه في خيمته وقال لها أهلاً يا أماه ، فقالت له : (( مثلى لا تلد مثلك )) ، وقالت له: (( أفزعك الله يا حجاج في الدنيا والآخرة ، كما أفزعت مكة وأهلها )) ، تذكر الحجاج هذه المقولة وهو يحتضر للموت ويعاني الويلات من شدة الألم من سرطان المعدة فقال:(يا ليت أسماء لم تقلها ... ليتها لم تقلها ..). كررها ثلاثاً.
3/: ما قام به مسلم بن عقبة المرى ، والذي يسميه بعض المؤرخين .. ( المسرف ).. لإسرافه في قتل آل البيت النبوي في المدينة المنورة ، وهو قائد جيش الخليفة الأموي يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، حين انتهى من غزو وتدمير المدينة المنورة وقتل أهلها وبالذات من أهل بيت النبي r . أمره الخليفة يزيد بن معاوية بالتوجه إلى مكة لأخذ البيعة له من أهل مكة المكرمة وابن الزبير بالذات ، ويزيد الأموي .. [ الملعون ].. أباح المدينة المنورة للجيش الأموي فقال المؤرخون أنه أباحها ثلاثة أيام للقتل ، وثلاثة أيام للنهب ، وثلاثة أيام لاغتصاب نسائها ، وقيل أنهم في هذا الجانب واعني .. ( الاغتصاب ).. تجاوزا الثلاثة ايام . فعلم أهل مكة بذلك فالتجوا إلى الكعبة المعظمة ودعوا دعوات صادقة ومخلصة على ذلك القائد المجرم السفاح: مسلم بن عقبة المرى ( المسرف ) أن لا يمكنه الله من الوصول لمكة المكرمة ، واستجاب الله لهم فمات وهو في طريقه إلى مكة المكرمة ففرح المكيون بذلك . ولم يدخل الى مكة المعظمة .
4/: قصة أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الحازم والشديد والجبار مع العلماء والفقهاء وقصصه مع الإمام أبو حنيفة النعمان وسفيان الثوري وغيرهما والمتسمة بالتجاوز على العلماء والفقهاء . وهروب سفيان الثوري إلى مكة المكرمة . وعندما قدم أبو جعفر المنصور للحج في مكة المكرمة وعلم سفيان وغيره من علماء الأمة . فطلبوا العلماء من سفيان الدعاء على أبو جعفر بأن لا يمكنه الله من الدخول لمكة ا لمكرمة ، فاتجه سفيان الثوري إلى المسجد الحرام ، وتعلق بإسدال الكعبة المشرفة ، ودعا على أبو جعفر المنصور بان لا يمكنه الله من الوصول إلى مكة المكرمة ، واستجاب الله له ، ومات أبو جعفر في أطرافها قبل دخوله إلى مكة المكرمة . ولما مات المنصور ، حفر له أكثر من مائة قبر ، ثم دفن في قبر أخر ، غير القبور المحفورة،ذلك لأن المحيطين به ، يعلمون ما صنع ، ويعرفون مقدار نقمة الناس عليه ، فعموا موضع قبره لئلاَ ينبش ويحرق .
وقالت سبيعة بنت الأحب تذكر ابنها خالد بن عبدمناف وتنهاه عن البغي بمكة ، جاء ذكر القصيدة في سيرة ابن هشام ( 1/25) ، وكتاب البداية والنهاية ( 3/126) ، هذه بعض أبياتها :
ابني لا تظلم بمكة لا الصغير ولا الكبير
ابني من يظلم مكة يلق آفات الشــــــــــــــرور
ابني قد جربتــــــــــــها فوجدت ظالمها يــــــــبور
أريد أن أقول ومن خلال هذا العرض السريع لبعض القصص والروايات التاريخية الصحيحة أن أهل مكة المكرمة .. [ أصحاب دعوة مستجابة ].. عند الله جلت قدرته .
وذكر بعض العلماء والمحدثين في تفسير الآية الكريمة (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ). أن حالات .. [ الإلحاد ]..،. بمكة المكرمة كثيرة جداً ومن أخطرها الحاق الاذى بأهل مكة المكرمة .
وقد ابتلى أهل مكة المكرمة في مختلف ادوار التاريخ بأشخاص وحكام ومسؤولين .. [ قساة ]..،.. [ ظالمين ].. ،.. [ طغاة ]..، ظلموا ، وعذبوا ، ونكلوا ، واستأصلوا ، وأبادوا الناس ، وهدموا العمران والطرقات . فكانت عاقبة هؤلاء الظالمين الجبابرة الهلاك والشنار . نعم كانت عاقبة كل ظالم ظلم وتجبر واستكبر على أهل مكة المكرمة اسوأ العواقب ، فهكلوا ، وهلك نسلهم من بعدهم ، ولم يبق لهم من أثر ، سوى صفحات سوداء ومظلمة دونها لهم التاريخ بمادة سوداء . أن من ظلم وتجبر والذين لم يتقوا الله وبغوا وظلموا ، كانت عاقبتهم أن انقرض عقبهم ، فلا ترى من نسلهم أحداً . فمن أحسن إلى الناس ، لقى المدح والثناء ، ومن أساء إليهم ، لقي الذم والهجاء ، وانقرض عقبه ، وبقيت صحيفته السوداء كما أنه لا ينسى الإحسان . واشهر دليل أن الحجاج بن يوسف الثقفي ، قد عم شومه جميع أهل بيثه وإفراد عائلته ، فقيل إنه لما هلك ، أمر الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك ، امر بجميع الرجال من آل أبي عقيل ، عائلة الحجاج فاعتقلوا بواسط ، وعذبوا ، حتى ماتوا بأجمعهم تحت العذاب . ولما استخلف الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز ، بعث بالباقين من أفراد عائلة الحجاج إلى الحارث بن عمر الطائي عامله على البلقاء ، وكتب إليه : أمام بعد ، فقد بعثت إليك آل أبي عقيل، وبئس ــ والله ــ أهل البيت في دين الله ، وهلاك المسلمين ، فأنزلهم بقدر هوانهم على الله تعالى وعلى أمير المؤمنين .
وقد أعجبني عبارة جميلة قالها ابن الأثير ، في كتابه الكامل في التاريخ فصلاً في مظالم البريديين ، ثم قال : إنه ذكر هذا الفصل ليعلم الظلمة أن أخبارهم تنقل وتبقى على وجه الدهر ، فربما تركوا الظلم لهذا السبب ، إن لم يتركوه لله سبحانه وتعالى .
أن التاريخ سجل لنا أسماء حكام ومسؤولين فاضت بهم القسوة فمارسوا أعمال ظلم ، وقهر ، وجور ، واستكبار ، وتكبر ، فحازوا بذلك لعنة التاريخ على الزمان .
فالحذر ، ثم الحذر ، ثم الحذر ، من مغبة دعاء أهل مكة المكرمة على كل من يرد بهم شراً أو يلحق بهم الأذى . ويقول بعض العلماء أن مجرد التفكير بإلحاق الأذى بهم يعتبر ألحادا ، وقال تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر 14) .
والله يسترنا فوق الأرض ، وتحت الأرض ، ويوم العرض وساعة العرض ، وأثناء العرض .
للتواصل :5366611
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق